سورة الأحقاف - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحقاف)


        


{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6)} [الأحقاف: 46/ 1- 6].
افتتحت السورة بالأحرف المقطعة للتنبيه على ما يأتي في السورة، ولتحدي العرب بالإتيان بمثل القرآن أو آية منه. وتقترن هذه الأحرف غالبا بالتحدث عن القرآن، لإثبات نزوله من عند الله وإعجازه. وتنزيل القرآن الكامل في كل شيء حاصل من الله عز وجل، القوي الغالب لكل من حادّه أو عارضة، المحكم المتقن، الحكيم في تدبيره وصنعه، وأقواله وأفعاله، يضع كل أمر في موضعه المناسب له.
ما أوجدنا أو أبدعنا السماوات العليا، والأراضي السفلى، إلا بما يتفق مع الواجب الحسن، الذي حق أن يكون، وإلى مدة معينة لا تزيد ولا تنقص، وهي يوم القيامة. والذين جحدوا وحدانية الله: معرضون عن الإنذار، وإنزال الكتب، وإرسال الرسل، فهم لاهون عما يراد بهم.
ثم ردّ الله تعالى على عبدة الأوثان، آمرا نبيه أن يقول للمشركين الوثنيين:
أخبروني عما تدعون من غير الله كالأصنام وأهل القبور، بعد التأمل في الكون، وخلق السماوات والأرض وما بينهما، هل تمكّنوا من إبداع أو خلق شيء في الأرض؟ وهل لهم مشاركة في ملك السماوات والتصرف فيها؟ الواقع أنهم عجزة عجزا تاما عن خلق شيء، أحضروا لي دليلا مكتوبا قبل القرآن، مما نزل على الأنبياء كالتوراة والإنجيل، يدل على صحة عبادة الأصنام؟ أو هل لكم بقية من علم الأنبياء السابقين، أو أحد العلماء؟ يرشد إلى صحة هذا المنهج الذي سرتم عليه، ويقتضي عبادة الأصنام، إن كنتم صادقين في ادعائكم ألوهية الأصنام أو الأوثان؟
والمعنى: لا دليل لكم من النقل أو العقل على ذلك، وليس لكم كتاب منزل قبل القرآن، يتضمن عبادة صنم أو وثن.
وقوله تعالى {مِنَ الْأَرْضِ} من: للتبعيض، لأن كل ما على وجه الأرض من حيوان ونحوه فهو من الأرض.
ثم وبّخ الله تعالى عبدة الأصنام، مبينا أنه لا أحد أضل ممن هذه صفته، بعبادة الأصنام من دون الله، فإنه يدعو من لا يسمع إلى يوم القيامة، والأصنام غافلون عمن دعاهم، لا يسمعون ولا يعقلون، لكونهم جمادات. والمراد: أنه ليس للأصنام قدرة على شيء، ولا علم لديها بشيء، فهي جمادات، وعبادة الجماد: محض الضلال، فهم لا يتأملون ما هم عليه في دعاء من هذه صفته.
وعبر عن الأصنام بقوله: {وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ} كخطاب العقلاء، معاملة لها كالعقلاء، في مزاعم أصحابها وعبدتها.
ومما يؤكد نفي العلم الدال على عبادة الأصنام: أنه إذا جمع الناس الكفار، والأصنام يوم القيامة في موقف الحساب، كانت الأصنام لهم أعداء، تظهر التبري منهم والإنكار عليهم، وتصبّ اللعنة عليهم، وتقول كما حكى القرآن الكريم عنهم: {تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ} [القصص: 28/ 63] وكانت الأصنام جاحدين مكذبين بتلك العبادة. وكذلك تتبرأ الملائكة والمسيح عيسى ابن مريم وعزير والشياطين ممن عبدوهم يوم القيامة.
إن العقل الإنساني السوي، وعزة الإنسان وكرامته، يأبى كل ذلك الخضوع الإرادي لصنم أو وثن، لا يضر ولا ينفع، ولا يعقل ولا يسمع، ولا يفهم ولا يستجيب لشيء، ومع كل هذه الأدلة القاطعة والبراهين المحسوسة يظل البدائيون في بعض البلاد الإفريقية وغيرها عاكفين على أصنامهم في القرن العشرين، على الرغم من دراساتهم العلمية في الجامعات الأمريكية والأوربية، بعد عودتهم لبلادهم، كما هو مشاهد ومعروف.
شبهات المشركين:
حاول المشركون الدفاع عن أفكارهم ومعتقداتهم، بإلقاء الشبهات الفارغة حول القرآن الكريم، والوحي الإلهي والنبوة، فوصفوا القرآن بالسحر، وكذبوا بالنبوة، فزعموا أن محمدا افترى القرآن من عند نفسه، لا بوحي من ربه، وطالبوا بمعجزات مادية عجيبة للتحدي والإرباك، وبأن يخبرهم عن بعض الغيبيات، واستعلوا على فئة الضعفاء، وأنفوا من مجالستهم، وقالوا: لو كان هذا الدين خيرا ما سبقونا إليه، فأبطل القرآن دعاويهم، وأوضح مهمة القرآن من إنذار الظلمة وتبشير المحسنين، وبيان عاقبة المستقيمين من الخلود في الجنان، وإبعاد المخاوف والأحزان عنهم، قال الله تعالى واصفا ذلك:


{وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14)} [الأحقاف: 46/ 7- 14].
المعنى: إذا تليت آيات القرآن الواضحة على المشركين، وصفوا الحق الذي أتاهم وهو القرآن بأنه سحر واضح، وتمويه كاذب، أي إنهم كفروا وافتروا وكذّبوا.
بل إنهم يقولون: افترى محمد القرآن، واختلقه من عند نفسه، كذبا على الله، فقل أيها الرسول لهم: لو افتريته وكذبت على الله، على سبيل الافتراض، لعاقبني الله تعالى أشد العقاب، ولا تملكون أن تعملوا لي شيئا، أو تسعفوني وتنقذوني. والله أعلم بما تقولون في القرآن وتخوضون فيه، من تكذيبه، ووصفه بالسحر والكهانة، كفى بالله شاهدا صادقا يشهد لي: بأن القرآن من عند الله، وبتبليغه إياكم، ومع هذا فالله غفور لمن تاب وآمن، وصدق بالقرآن وعمل به، وهو رحيم به، حيث لا يعاقبه على ما سبق منه، وفي هذا جمع بين الوعيد والترهيب، والترغيب لهم في التوبة والإنابة.
وقل لهم أيها الرسول على اقتراح المعجزات: لست بأول رسول في العالم، ولا مبتدعا شيئا لا مثيل له، بل هناك رسل كثيرون قبلي، ولا أعلم ما يفعل بي ولا بكم في المستقبل، وإنما أتبع الوحي الذي أنزله الله علي في القرآن والسنة، ولا أبتدع شيئا من عندي، ولست إلا نذيرا لكم، أنذركم عقاب الله وأخوّفكم عذابه، وأوضح ما جاء من عند الله عز وجل.
ثم أكد الله خسارة المشركين، فقل أيها الرسول لهم: أخبروني إن كان هذا القرآن من عند الله في الحقيقة، ثم كفرتم به، وشهد شاهد من بني إسرائيل، العالمين بالتوراة على صحته وعلى ما قلت، فآمن هذا الشاهد: وهو عبد الله بن سلام الذي أسلم بعد الهجرة، ثم تكبرتم عن الإيمان به، فقد ظلمتم أنفسكم، والله لا يوفق الظالمين إلى الخير.
أخرج البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: في عبد الله بن سلام نزلت هذه الآية: {وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ}، ثم قال مشركو مكة حينما رأوا إيمان جماعة من الفقراء المستضعفين، كعمار وصهيب وابن مسعود: لو كان هذا الدين خيرا، ما سبقنا إليه هؤلاء، وحين لم يهتدوا بالقرآن ظهر عنادهم، وسيقولون بعدئذ: هذا كذب مأثور عن الأقدمين. نزلت كما أخرج الطبري عن قتادة قال: قال ناس من المشركين: نحن أعز، ونحن ونحن، فلو كان خيرا ما سبقنا إليه فلان وفلان، فنزل: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا...}.
وقال قتادة أيضا: هي مقالة أشراف قريش، يريدون عمارا وصهيبا وبلالا ونحوهم ممن أسلم، وآمن بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ومما يدل على أن القرآن حق وصدق، وأنه من عند الله: اعترافكم أيها المشركون بإنزال التوراة على موسى، الذي هو إمام وقدوة يقتدى به في الدين، وهو رحمة لمن آمن به، وهذا القرآن الموافق للتوراة في أصول الشرائع، مصدق لكتاب موسى ولغيره من الكتب المتقدمة، أنزله الله لينذر به النبي من عذاب الله الذين ظلموا أنفسهم، وهم مشركو مكة، ويبشّر به المؤمنين الذين أحسنوا عملا.
ثم ذكر الله تعالى حال المؤمنين، وجزاءهم الأخروي، فإن الذين جمعوا بين التوحيد والاستقامة على منهج الشريعة، لا يخافون من وقوع مكروه بهم في المستقبل، ولا يحزنون من فوات محبوب في الماضي. والخوف: هو الهمّ بما يستقبل، والحزن:
هو الهمّ بما مضى، وقد يستعمل فيما يستقبل استعارة، لأنه حزن لخوف أمر ما.
أولئك المؤمنون الموحدون المستقيمون على أمر الله: هم أهل الجنة ماكثون فيها على الدوام، مقابل ما قدموه من أعمال صالحة في الدنيا، أي إن الجزاء بسبب العمل الصالح في الدنيا، على منهج العدل والحق. وهذا دليل على أن الله تعالى جعل الأعمال أمارات على جزاء الإنسان، لا أنها توجب على الله تعالى شيئا، لكن لا يكون دخول الجنة إلا بفضل من الله وإحسان.
الإيصاء ببرّ الوالدين:
1- البارّ بوالديه:
الوالدان: سبب وجود الولد، ولهما الفضل بتربيته ورعايته، صغيرا وكبيرا، لذا كانت الوصية من الله تعالى لعباده ببر الأبوين، والإحسان إليهما، وكان برّ الوالدين في الشريعة واجبا بآيات كثيرة في القرآن العظيم، وعقوقهما كبيرة من الكبائر، روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن نبي الله صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقول: «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده».
وألزم القرآن الكريم في آياته الأولاد برّ آبائهم وأمهاتهم، ونهى عن عقوقهم، وذكر الله تعالى حق الأمهات على الأبناء والبنات، وجعل الأم في أربع مراتب، والأب في مرتبة واحدة، كما في هذه الآيات:


{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16)} [الأحقاف: 46/ 15- 16].
نزلت هذه الآية- كما ذكر الطبري- في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ثم هي تتناول من بعده.
وقال السدّي والضحاك: نزلت في سعد بن أبي وقاص، والأولى أنها للعموم الشامل لهاتين الواقعتين وغيرهما.
والمعنى: وصينا الإنسان وأمرناه أن يحسن لوالديه، في الحياة وبعد الموت.
والتوصية: الأمر المقترن بالوعظ والإشعار بالعناية بالشيء المأمور به. والإحسان بالحنو عليهما والكلام اللطيف معهما، والإنفاق عليهما عند الحاجة، والبشاشة عند لقائهما. وذكرت الأم مرة في قوله تعالى: {بِوالِدَيْهِ} ثم ذكرت في مراتب ثلاث أخرى وهي حمل الأم ثم وضعها، ثم رضاعها الولد الذي عبر عنه بالفصال، وهذا يناسب ما قال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم حين جعل للأم ثلاثة أرباع البر، والربع للأب. وذلك حين قال له رجل: «يا رسول الله، من أبرّ؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أباك».
والحمل والوضع بكره، أي بمشقة. حتى إذا بلغ الولد أشده، أي كمل عقله ورأيه، واشتد ساعده، وذلك: ستة وثلاثون، في أقوى الأقوال، وبلغ أربعين سنة، قال: رب ألهمني ووفقني أن أشكر نعمتك التي أنعمت بها علي، وعلى والديّ، من نعمة الهداية إلى الدين الحق والتوحيد، وغير ذلك من نعم الدنيا، كسلامة العقل والصحة، ووفرة العيش، وكمال الخلقة، وحنان الأبوين في الصغر، وألهمني ووفقني للعمل الصالح الذي ترضاه مني: وهو الصلوات، وأصلح لي في ذريتي بجعلهم أهل طاعة وخيرية، ومعنى الآية: أن هكذا ينبغي للإنسان أن يفعل، وهذه وصية الله تعالى في كل الشرائع.
إني تبت من الذنوب، ورجعت إليك من العيوب، وإني من المنقادين لطاعتك، المخلصين لتوحيدك.
وجزاء هؤلاء الصالحين: أن الله تعالى يتقبل من أولئك الموصوفين بالصفات المتقدمة أحسن أعمالهم، وهو ما قدّموه من صالح العمل، وعمل الخير في الدنيا، المتفق مع أمر الله تعالى، ويعفو عنهم، ويتجاوز عن سيئاتهم وذنوبهم، فلا يعاقبهم عليها، لأنها تتلاشى بالحسنات، كما قال الله سبحانه: {إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ} [هود: 11/ 114]. وهم من جملة أصحاب الجنة، الذين سبقت لهم رحمة الله تعالى، وقد وعد الله أهل الإيمان بالقبول، وعدا صادقا منجزا.
وقوله تعالى: {أُولئِكَ} بالإشارة إلى البعيد، لبيان علو منزلتهم، وهو إشارة إلى الإنسان المذكور باعتبار الجنس، في قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ} وجمعه باعتبار أفراد الإنسان، الذين تحقق فيهم ما ذكر من الأوصاف، بمعرفة حقوق الوالدين، والرجوع إلى الله بسؤال التوفيق للشكر، وذلك مشعر بأن هذه الأوصاف: هي أوصاف الإنسان الكامل. وقوله: {أَحْسَنَ ما عَمِلُوا} أي حسن ما عملوا، فيشمل الحسن والأحسن. وقوله: {وَعْدَ الصِّدْقِ} مصدر مؤكد لما قبله، أي وعدهم ذلك وعد الصادق في قوله وفعله، وتنفيذ وعده.
واستفيد من هذه الآية: {وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} ومن آية لقمان: {وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ} [لقمان: 31/ 14] أن أقل الحمل ستة أشهر، لأن الرضاع يكون في حولين كاملين في آية: {وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ} [البقرة: 2/ 233] فإذا كان أكثر مدة الرضاع حولين كاملين، بقي للحمل من الثلاثين شهرا: ستة أشهر. وكان علي رضي الله عنه أول من استدل بهاتين الآيتين، للدلالة على أقل مدة الحمل، وهي ستة أشهر.
2- العاق لوالديه:
الموازنة أو المقارنة بين الأضداد تظهر الفوارق، وتحمل الإنسان على تبين الاتجاه الأفضل، وترك التوجه الأدنى أو الأسوأ. فإذا كان البارّ بوالديه يتبوأ عند الله المنزلة العالية، ويرضى عنه، ويدخله جنته، فإن العاق لوالديه، في غضب الله وسخطه، وتعرضه لعذاب النار، وتحقق خسارته.
وقد أنزل الله تعالى آيات تفيد العموم في حال البارّ والعاقّ، ولم يصح كون آيات العقوق نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر، بدليل قول عائشة رضي الله عنها: والله ما نزل في آل أبي بكر من القرآن غير براءتي، وإني لأعرف فيمن نزلت هذه الآية: {وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ} وهذه هي الآيات الآتية في العاق لوالديه:

1 | 2 | 3